يبدأ القسم الثالث من المشنا (المثناة) وهو القسم المختصُّ بأمور النساء، أو «ناشيم» بالعبرية، بالمبحث الخاص بالأرامل. ويبدأ هذا المبحث بذكر (المحارم) أى النساء اللواتى تَحْرُمُ على الرجل معاشرتهن أو الزواج منهن، ثم يخوض هذا المبحث من بعد ذلك، فى بيان القواعد واجبة الاتباع، عند زواج الأخ من أرملة أخيه.
والمحارم فى العقيدة اليهودية، بحسب ما يبتدئ به كتاب النساء، هن خمس عشرة امرأة: الابنة، ابنة الابنة، ابنة الابن، أخت الزوجة، ابنة الزوجة، ابنة بنت الزوجة، ابنة ابن الزوجة، الحماة، أم الحماة، أم الحمو، الأخت ولو من الأم، الخالة، زوجة الأخ، زوجة الابن، أرملة الأخ الذى مات قبل أن يولد.. وباستثناء أولئك النسوة، يجوز للرجل أن يتزوَّج، وأن يتزوج من أرملة أخيه المتوفى بعد انقضاء فترة الحداد المسماة عندنا (العِدَّة) وهى فى اليهودية، أيضاً، ثلاثة أشهر.
واليهودية، كالإسلام، تُبيح الطلاق والخلع. لكنها لا تتيح ذلك الأمر بشكل مفرط، وإنما تضع له شروطاً وقواعد لا بُدَّ من مراعاتها. وهى تشجِّع الزواج من أرملة الأخ، وتقرُّ به ولو وقع الاشتهاء سهواً! فالفصل السادس من مبحث الأرملة، يبدأ بما يلى : «الذى يضاجع أرملة أخيه، سواء سهواً أو عمداً، اضطراراً أو طواعيةً، حتى وإن كان هو ساهياً وهى متعمدة، أو كان هو متعمداً وهى ساهية.. فإنه بذلك قد حازها زوجة».
وسن البلوغ (التلمودى) للنساء، أى السن التى يمكن فيها الزواج، هى بلوغ المرأة اثنتى عشرة سنة وستة أشهر ويوماً واحداً.. والزواج بغير الرغبة فى الإنجاب، وإنما للمتعة فقط، يُسَمَّى فى التلمود: زنى! لأن اليهودى لا يجب أن يتوقف عن أداء الوصية التوراتية : أثمروا وتكاثروا.. (سفر التكوين: ١: ٢٨).
■ ■ ■
وفى الفصل الثامن من المبحث الأول من القسم الثالث من المشنا التلمودية المقدسة (عند اليهود) نصٌّ يستحق التأمل، سوف ننقله فيما يلى بحروفه، ونتركه من بعد ذلك من غير تعليق: «يحرم العمونى والمؤابى من الدخول فى جماعة الرب إذا تهودا.. ولا يحرم المصرى والأدومى من الدخول فى جماعة الرب، إلا حتى الجيل الثالث، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً..».
توضيح : العمونيون والمؤابيون، هما قبيلتان كبيرتان أصلهما رجلان (بن عمِّى - ومؤاب) أنجبهما النبى لوط التوراتى، ابن أخت إبراهيم أبى الأنبياء، سِفاحاً.. ذلك أنه بحسب القصة التوراتية، فإن ابنتى «لوط» أسكرتاه فى مغارة عند العودة من «سدوم» بعد خرابها، فضاجعهما ليلتين متتاليتين، فأنجبت إحداهما من أبيها الطفل «مؤاب» جد المؤابيين، وأنجبت الأخرى «بن عمِّى» جد العمونيين.
■ ■ ■
ويحدِّد النص التلمودى حقوق الزوج على زوجته، وواجباتها نحوه. وهى حقوق وواجبات تختلف بحسب ثراء الزوجة أو فقرها! لكنها فى نهاية الأمر، لا بُدَّ لها من تأدية بعض الأمور لزوجها.. وفى نص طريف، نقرأ ما يلى:
«هذه هى الأعمال التى تؤديها الزوجة لزوجها: تطحن وتخبز وتغسل وتطهو وترضع ابنها وترتب الفراش وتغزل الصوف. وإذا أحضرت معها جارية، فإنها لا تطحن ولا تخبز ولا تغسل. وإذا أحضرت جاريتين، فإنها لا تطهو ولا ترضع ابنها. وإذا أحضرت ثلاثاً، فإنها لا ترتب الفراش ولا تغزل الصوف. وإذا أحضرت أربع جوارٍ، فإنها تمكث طيلة اليوم على كرسى الهيبة، وتعفى من القيام بأىِّ عمل لزوجها».
وهناك اجتهادٌ فقهىٌّ للرابى (الفقيه) إليعازر، بخصوص هذا الأمر نصُّه الآتى: حتى وإن أحضرت الزوجة مائة جارية، فإنها تظل مجبرةً على غزل الصوف لزوجها، لأن البطالة تؤدى إلى الفجور.. واجتهادٌ آخر لشمعون بن جملئيل، نصه: من ينذر ألا تؤدى زوجته عملاً، فإنه يطلِّقها ويعطيها الكتوﭬا (المؤخَّر) الخاصة بها، لأن البطالة تؤدى إلى الملل.
ومن النصوص التلمودية اللطيفة، أيضاً، هذه الفقرة: «واجب معاشرة الزوجة: العاطلون يعاشرون يومياً، والعاملون مرتين أسبوعياً، والبحارة مرة كل ستة أشهر.. إذا ظهرت عيوب فى الزوج، ليس لهم أن يرغموه على الطلاق، إلا فى العيوب الشديدة، والذين يرغمون على الطلاق، هم: المصاب بالدمامل، والمصاب بالجيوب الأنفية، ومَنْ يجمع روث الكلاب».
■ ■ ■
وبحسب الشريعة اليهودية التلمودية، فإن عدد زوجات الرجل أربع. ويجوز للمرأة أن تشترط على زوجها شروطاً قبل الزواج، كأن تطلب أن يعول ابنتها من غيره. ولا تعدُّ المرأة مطلقة، حتى تتسلَّم بيدها وثيقة طلاقها.
وللطلاق (جيطين) أحكامٌ تفصيلية، جاءت فى مبحث خاص يضم فصولاً كثيرةً، منها فصلٌ خاصٌّ بالخِطبة.. ولا تصحُّ الخِطبة إذا خدع الخاطب الفتاة وضلَّلها، يقول النص التلمودى: إذا قال لها اقبلى خِطبتى بكأس الخمر هذه، واتضح بعدها أنها كأس عسل، أو بدينار الفضة هذا، واتضح أنه ذهب، أو شريطة أننى ثرى واتضح أنه فقير، أو فقير واتضح أنه ثرى، فإنها لا تعد مخطوبة.. ولكن الرابى شمعون يقول : إذا ضلَّلها لصالحها، فإنها تعدُّ مخطوبة.
ويجوز أن يُنيب الرجل غيره فى الخِطبة، ويجوز أن يشترط شروطاً لإتمام الزيجة، كأن لا يكون عليها ديون أو أن بها عيوباً لا يعرفها. فإذا اتضح خلاف ما اشترطه، لم تصحّ الخِطبة، ولا يجوز أن يتمَّ الزواج.
ومع أن اليهود يشتكون ليلَ نهارَ من آثار العنصرية، وينوحون دوماً بسبب ما يسمُّونه «العداء للسامية» أى العداء لليهود تحديداً! على الرغم من أننا نحن العرب بحسب هذا الزعم «سامِيُّون» أيضاً.. المهم، أنه على الرغم من تلك الشكوى وهذا النواح، فإن القسم الثالث فى المشنا التلمودية يعكس عنصريةً عجيبةً، ليس فقط على مستوى تقسيم الناس إلى (يهود – وغير يهود) وإنما على مستوى أكثر تفصيلاً، وصرامة فى الأحكام المتعلقة بكل فئة.. ولنقرأ النصَّ التالى، الذى شرحتُ بعض مفرداته بعبارات وضعتها بين قوسين:
«عشرة أنساب هاجروا من بابل (بعد السبى) هم: الكهنة، واللاويون، والإسرائيليون، والحالاليون (أى أبناء الكهنة من زوجات محرَّمات عليهم) والمتهوِّدون، والعبيد المحرَّرون، والأبناء غير الشرعيين، والناتينيون (جماعة تهوَّدوا أيام يهوشع بن نون، غلام موسى) ومجهولو النسب، واللقطاء».
وعشرةُ الأصناف السابقة، تنتظم تشريعياً فى ثلاث طبقات، ولا يجوز لشخص أن يتزوج من خارج طبقته، وإلا صار الزواج غير شرعى، وكان الأبناء بحسب الأحكام التلمودية: غير شرعيين! والطبقة الأعلى، بالطبع، تضم الكهنة واللاويين والإسرائيليين (وهم أحفاد لاوى، ويعقوب = إسرائيل) والطبقة الأدنى هى التى تضم المتهودين والمحررين والأبناء غير الشرعيين والناتينيين ومجهولى النسب واللقطاء.
إذن، الطبقية المطلقة والتمييز على أساس عرقى، هما أصل من أصول المجتمع اليهودى الذى يشكو إعلامه دوماً من (العداء للسامية) على أساس أنه تمييز عنصرى! والأدهى من ذلك، أن الطبقية اليهودية «مطلقة» بمعنى أنها لا تزول مهما امتدت الأجيال، فحتى هؤلاء الذين دخل آباؤهم فى الديانة منذ ألوف السنين، على يد يهوشع (يوشع، بن نون) لا يزالون يلحقون بالأبناء غير الشرعيين، وهو ما تؤكِّده «المسورت» التى ورد فيها: إن داود الملك (النبى عند المسلمين) قرَّر عليهم ألا يأتوا فى جماعة إسرائيل، لأنهم يعدُّون كالأبناء غير الشرعيين.
تُرى، كيف سيتقبل المجتمع اليهودى المعاصر أولئك الذين يُعرفون اليوم بجماعة (عرب ثمانية وأربعين) وهم وإن كانوا يحملون جوازات سفر إسرائيلية، إلا أنهم أصلاً غير يهود، وإنما مسيحيون ومسلمون!
■ ■ ■
وفى هذا القسم من التلمود اعتناءٌ كبير بإبراز أهمية الختان، والشريعة اليهودية الحاخامية (التلمودية) تؤكد ما ورد فى العهد القديم من التفرقة بين بنى إسرائيل «المختتنين» وبقية شعوب الأرض، الذين يسمُّونهم «الغلف» على اعتبار أن غُرلة قضيب الذكر، هى بمثابة غلافه الطرفى.. يقول النص:
«الغرلة لا تطلق إلا على الجوييم (غير اليهود) حيث ورد فى سفر صموئيل: لأن جميع الشعوب غُلف.. وورد : من هو هذا الفلسطينى الأغلف، حتى يعبر جيش الله الحى.. وورد: لئلا تفرح بنات فلسطين، لئلا تشمت بنات الغُلف. يقول الرابى إليعازر بن عزريا: بغيضة تلك الغُرلة التى يأثم بها الأشرار. ويقول رابى إسماعيل : عظيم ذلك الختان الذى قُطع عليه ثلاثة عشر عهداً.. يقول رابى يهوذا هنَّاسى: عظيمٌ ذلك الختان، لأنه مع كل الوصايا التى أدَّاها أبونا إبراهيم، فإنه لم يُدع كاملاً، إلا بعد أن اختتن.. وعظيمٌ ذلك الختان، لأنه لولا الختان ما خَلَقَ القدوس (تعالى) هذا العالم!