د. يوسف زيدان يكتب: تلمود اليهود (٧-٧) .. الطهارات (طهاروت)
٧/ ٤/ ٢٠١٠
يأتى القسم السادس، الأخير، من المشنا التى عرفها العرب باسم «المثناة»، ليتمِّم النصف الأول (الأساسى، الرئيس) من «التلمود» الذى هو نتاج الاجتهادات الشرعية لحاخامات اليهود طيلة قرون طوال. أما الجزء الآخر المكمِّل للتلمود، وهو المعروف باسم «الجمارا»، فهو الشروح والمناقشات التى دارت حول المشنا، أيام كان اليهود سبايا فى بابل (مع غيرهم من جماعات المنطقة المسماة الهلال الخصيب = سوريا، العراق) وهو ما أعطى لليهودية مع نص المشنا: التلمود البابلى.
أما الشروح والمناقشات التى دارت بين الحاخامات والرِّبِّيين (الفقهاء) فى فلسطين، فقد أعطت مع نص المشنا: التلمود الفلسطينى، أو «التلمود الأورشليمى» ولكن التسمية الأولى هى الأدق والأصوب، لأن الجمارا الفلسطينية حصيلة ما دار فى أورشليم، بالإضافة إلى ما دار فى بقية أنحاء فلسطين بعدما دمر الرومان مدينة أورشليم (سنة ٧٠ ميلادية) وطردوا اليهود منها، عقاباً على أحلامهم التوسعية ونزعتهم الاستقلالية.
لدينا إذن، تلمودان: بابلى، وفلسطينى. وكلاهما يتفقان فى الجزء الأول (المشنا) ثم يفترقان فى الجزء الآخر (الجمارا) بحسب المكانين اللذين تمت فيهما اجتهادات علماء الشريعة اليهودية.. والجمارا البابلية، وبالتالى التلمود البابلى، أكبرُ حجماً من النسخة الفلسطينية، بثلاثة أضعاف.
والشريعة اليهودية، بحسب اعتقاد أصحابها، لها وجهان «الوجه الأول جاء (مكتوباً) وقد أعطاه الله لموسى، وهو المسمى «التوراة» التى لحقت بأسفارها الخمسة (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية) أسفارُ الأنبياء الأوائل، والأنبياء الأواخر (الكبار منهم والصِّغار!) فصار مجموع هذه الأسفار، مع ما أضيف إليها من أغنيات شعبية مثل «نشيد الأنشاد» ومن ابتهالات وتراتيل دينية مثل «مزامير داود»، هو الكتاب المسمى (العهد القديم) الذى يقدِّسه اليهود والمسيحيون، ويرى المسلمون بحسب ما جاء فى القرآن الكريم، أو بحسب فهمهم لما جاء فى القرآن الكريم، أنه كتابٌ محرَّف.. وهى التهمةُ التى لم يفهمها اليهود، ولا المسيحيون من بعد، لأن كليهما لم يعتقد أصلاً أن نصوص (العهد القديم) نزلت من السماء بشكلها المتداول، وإنما هى نتاج التدوين والترجمة والجمع والإضافة.
فالتوراة كتبها «عزرا الكاتب» بعد موسى بخمسة قرون من الزمان، بمعونة الروح القدس (رُوَّح هقُّودِش) ثم أضيف إليها بقية الأسفار، باللغة العبرية، وكاد هذا المجموع ينطمس مع اندثار اللغة العبرية قبيل ميلاد السيد المسيح، لولا أن البطالمة قاموا فى الإسكندرية باستضافة بضعة وسبعين حاخاماً يهودياً، نقلوا التوراة من العبرية إلى اليونانية، فصار لدينا ما يُعرف باسم (الترجمة السبعينية) وهى التى تُرجمت فيما بعد إلى بقية اللغات.
ومن ثم، فالنصُّ الذى بأيدى الناس، مترجمٌ، لا محرَّف! أو أن كل مترجمٍ، هو محرَّفٌ بالضرورة، لأنه ينقل معنى النص ويستجلب قداسته مع معناه، لا لفظه.. ولذلك، لم تقم فى اليهودية ولا المسيحية مشكلة عقائدية مشابهة لما عرفه التراث الإسلامى العقائدى (الكلامى) باسم: مشكلة خلق القرآن (هل القرآن الكريم، بألفاظه الواردة فى المصحف: أزلىٌّ أم هو حادث فى زمان مخصوص).
والوجه الآخر من الشريعة اليهودية، بحسب اعتقاد أصحابها، جاء (شفاهياً) وقد أعطاه الله لموسى، الذى أعطاه لخليفته يوشع بن نون، الذى أعطاه للأنبياء والحاخامات. ثم جمع «يهوذا هنَّاسى» النصف الأول منه (المشنا) فى القرن الثالث الميلادى، وهو النصف الذى لحقت به (الجمارا) البابلية والفلسطينية، وتراكمت عبر السنين، حتى اكتمل الشكل النهائى للتلمود بنسختيه (البابلية، الفلسطينية) فى حدود القرن العاشر الميلادى، بعدما نضج الفكر الدينى المسيحى والإسلامى، وبعدما استفاد التلمود فى صورته النهائية منهما معاً.
■ ■ ■
ويأتى القسم السادس، الأخير من المشنا، بعنوان عبرىٍّ كأنه عربى! هو: طهاروت، أى الطهارات.. ليؤكِّد ما ذكرناه مراراً فى هذه السباعية، من التطابق اللفظى والدلالى بين المفردات العبرية والعربية، خاصةً ما يتعلَّق منها بمفاهيم العقيدة ومبادئ الديانة وأصول الأشياء والموجودات. والمشتغلون بفقه اللغة وعلوم اللسانيات، يطلقون على العربية والعبرية ومعهما الآرامية (السريانية) اسم: اللغات السامية!
ولم تكن تلك التسمية، إلا للدواعى التصنيفية العامة حسبما أراد اللغوى الأوروبى (شلوتسر) ولكن أبناء العم، والخال، وكل الأقارب! شهروا فى وجوهنا تلك التسمية، وأشهروها، وكأن سام بن نوح، حقيقة تاريخية ثابتة، وكأن الثابت عنه أنه تكلم فجأة لغةً جديدة تفرَّعت مع الأيام إلى هذه اللغات المتقاربة لفظاً ومعنى.. هذا قولهم، والله أعلم بحقيقة ما يقولون، وما يخترعون، ويقنعون به الناس.
والعجيب فى هذا الأمر، أن مسألة (السامية) هذه، ما لبثت أن انتقلت من دائرة «اللسانيات» إلى دائرة «الأنساب والسلالات» ثم إلى دائرة الدعاية الإسرائيلية المعاصرة. فصارت هناك تهمة اسمها (العداء للسامية) جاهزة للانطباق على أى شخص يقول أى شىءٍ لا يرضى عنه اليهود المعاصرون! والأعجب أنهم لا يتورعون عن إطلاقها ضد الجميع، بمن فيهم العرب.
وقد اتهمونى شخصياً منذ سنوات بالعداء للسامية (أيام مشكلة بروتوكولات حكماء صهيون) ونغَّصوا علىَّ حياتى، حتى رددتُ عليهم بأن خرافة «السامية» إن صحَّت تاريخياً وعرقياً، فسوف أكون أكثر ساميةً من معظم اليهود! على الأقل لأن جذورى العربية واضحة ومحددة وظاهرة شكلاً وموضوعاً، بينما كثيرٌ من اليهود متهوِّدون (كيهود الفلاشا الزنوج، والقبيلة الثالثة عشرة المغولية) مما يقدح فى ساميتهم المزعومة، على اعتبار صحة هذا الزعم أصلاً.
■ ■ ■
ويأتى كتاب (قسم) طهاروت بادئاً بما هو عكس الطهارة: النجاسة.. والفكر الدينى اليهودى يهتم اهتماماً خاصاً بالنجاسات، انطلاقاً من مفهومها الواسع، غير المحدد، الوارد فى السفر الثالث من التوراة (سِفْر اللاويين) وفى الكتاب السادس من المشنا، وهو (سفر الطهارات) الذى نتحدث عنه الآن.. وحسبما ينقل مترجم التلمود، د. مصطفى عبدالمعبود منصور، عن عبيد الله موسى بن ميمون الأندلسى المصرى (أهم فقيه يهودى فى العصور الوسطى) فإن: «الغاية من مباحث الطهارات، حمايةُ المقدس من النجاسات، وضمانُ دخول الأطهار فقط إلى المقدس».. والمقدَّس فى اليهودية قد يتنجَّس من أشياء لا حصر لها.
فالمرأة أثناء حيضها نجسةٌ، والمصاب بالسيلان والبرص نجسٌ، والذى يلمس الحائض نجسٌ، والمرأة إذا أنجبت طفلاً ذكراً تظل أربعين يوماً نجسة، وإذا كان المولود أنثى تظل الأم ثمانين يوماً نجسة، ويصير الذى يلمسها فى تلك الفترة نجساً مثلها.. ويصير أى شىء تلمسه هى من مقاعد أو أدوات، نجساً مثلها.
وعدم ختان المولود يجعله نجساً، ووجود جثة ميت فى بيت يجعل كل ما تحت سقفه نجساً، وبالتالى فكل ما يلمس الجثة يصير نجساً، ومنطقة المقابر (المدافن) نجسة.. إلخ، وهذه النجاسات كلها تزول بالماء، وبالاغتسال نهاراً للتطهر من بعض النجاسات، أو ليلاً للتطهر من بعضها الآخر.
■ ■ ■
ويأتى قسم (طهاروت) بمبحثٍ يهين المرأة، بعين ما تقدَّست به النساء فى فجر الحضارة الإنسانية: الحيض!.. ففى الأزمنة الأولى، أيام كانت المجتمعات الإنسانية المبكرة تعبد الإلهة الأنثى (إيزيس، عشتار، إنانا، أرتميس.. وغيرهن) كان الرجل يرى فى المرأة، صورةً للإلهة فى الأرض. ولأن النساء يَحِضْنَ بالدم، والدمُ هو السائلُ المقدس، فالنساءُ مقدَّسات.. ولذلك، فلابد للرجل كى يقترن بالمرأة ويضاجعها أن يتطهر بالختان. ومن هنا نقول بالعامية المصرية للختان (طهارة) لأن الجزء الدائرى المقطوع من طرف القضيب، كان يُنظم فى خيطٍ يُزيَّن به عنق الإلهة (الربة) فيكون الرجل من بعد ذلك «متأهِّلاً» للاقتران بواحدة من النساء، اللواتى هن صورة الربة فى الأرض.
فى المقابل من ذلك، يقول التلمود: «تعدُّ المرأة نجسة من وقت رؤيتها للدم» وهذا ينطبق على المرأة اليهودية، أما غيرها من النساء، فالأصل فيهن النجاسة! يقول التلمود: «بنات السامريين حائضات من مهدهنَّ، والسامريون ينجِّسون المضجع السفلى كالعلوى، لأنهم يجامعون حائضات.. بنات الصدوقيين، عندما ينتهجن نهج آبائهن، فإنهن كالسامريات».
توضيح: الصدوقيون، هم اليهود الذين يؤمنون بالتوراة ويعملون وفقاً لما جاء بها، ولا يعتدُّون بالتلمود ولا يعترفون به.
ومن أغرب ما يرد بالتلمود ما جاء فى مبحث الحيض من سفر طهاروت، حيث نقرأ: «ابنةُ الثلاثة أعوام ويوم واحد، يمكن أن تُخطب للزواج، وإذا حَلَّ عليها اليبام (حكم الأخ الذى توفى أخوه، فصار عليه أن يتزوج زوجته) فله أن يتزوجها.. وإذا جامع طفل عمره تسعة أعوام ويوم واحد أرملة أخيه، فقد تزوَّجها، ولا يمكنه أن يطلقها حتى يكبر.. إذا نامت ثلاث نساء فى فراشٍ واحدٍ، وظهرت بقعة دم تحت واحدة منهن، فكلهن نجسات. فإذا فحصت إحداهنَّ نفسها فكانت نجسة (حائض) فإنها تعد نجسة والاثنتان طاهرتان.. إذا جامعت المرأة زوجها، وبعد ذلك رأت دماً، فالزوجان ينجِّسان المضجع والمقعد، ويلزمان بالقربان للتكفير عن ذلك».
■ ■ ■
ولا يتسع المجال هنا لاستعراض بقية ما ورد فى كتاب الطهارات، فلنختتم هذه المقالة (الأخيرة من السباعية) بإشارتين.. الأولى أننى اخترتُ من نصوص المشنا ما يدل على طبيعة كل قسم من أقسامها الستة، وكان من وراء ذلك نصوص كثيرة، عامةٌ جداً وعمومية، لا تختلف فى طبيعتها ومراميها اختلافاً كثيراً عما نجده فى كتب الفقه الإسلامى وعلم الكلام عند المسلمين. ولذلك، فقد أكَّد كثيرٌ من الدارسين أن الصيغة الأخيرة للمشنا تأثرت بالفكر الدينى (الشرعى) عند المسلمين.
والإشارة الأخرى تتعلق بالمبحث الرابع من كتاب الطهارات التلمودى، وهو مبحث عنوانه: باراه (البقرة) ويختص بالصفات التى يجب أن تُراعى فى البقرة التى تُقدَّم كقربان، وطريقة ذبحها، ولونها.. وهو مبحث إذا نظرنا إليه فى ضوء ما جاء فى (سورة البقرة) بالقرآن الكريم، لظهر لنا على نحو لافت تواصل التراثيات اليهودية والإسلامية، والمسيحية بالطبع.
ولن أزيدَ على ذلك، فالنطاقُ لن يتَّسع